• ٤ أيار/مايو ٢٠٢٤ | ٢٥ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

الجدل العنيف وإستراتيجيات الحوار المنتج

باسم حسين الزيدي

الجدل العنيف وإستراتيجيات الحوار المنتج

حتى نستطيع التفاهم فيما بيننا بطريقة عملية يسهل من خلالها حل مشاكلنا وخلافاتنا بعيداً عن التعصب والتزمت في طرح الآراء وتبادل وجهات النظر نحتاج إلى أمرين مهمين:

1- التعاطي مع الآخرين من خلال «الحوار المنتج» الذي يستخدم لغة العقل والهدوء وطرح الأفكار بأسلوب علمي خالي من التوتر مهما اختلف معك الآخر فكرياً وثقافياً.

2- ترك أسلوب «الجدل العنيف» أو «الجدل العقيم» الذي لا طائل منه سوى العنف اللفظي والبحث عن الغلبة مبتعداً بذلك عن الهدف الحقيقي لأي حوار وهو الوصول إلى الحقيقة وحل الخلافات والبحث عن القواسم الجامعة بدلاً من النقائض المفرقة.

الفرق بين الحوار والجدل

لكي نعرف الفرق بين الجدل والحوار لابدّ لنا أن نعرف الفرق بينهما لغة واصطلاحاً حتى يسهل علينا معرفتهما والمقارنة فيما بينهما.

الحوار في اللغة: من حاور يحاور محاورة، وقد ورد في تاج العروس أنّ الحوار يعني تراجع الكلام، كما ورد في لسان العرب لابن منظور تحت الجذر (حور) وهم يتحاورون أي: يتراجعون الكلام، والمحاورة مراجعة المنطق والكلام في المخاطبة، وقد حاوره، والمَحُورَةُ من المُحاوَرةِ مصدر كالمَشُورَةِ من المشاورة كالمَحْوَرَةِ.

أمّا الحوار في الاصطلاح اللغوي فهو نشاط عقلي ولفظي يقدم المتحاورون الأدلة والحجج والبراهين التي تبرر وجهات نظرهم بحرية تامّة من أجل الوصول إلى حل لمشكلة أو توضيح لقضية ما.

وللحوار آداب جمّة ينبغي للأطراف جميعها التحلي بها والالتزام بها حتى لا يتحوّل كلامهم إلى مراء أو جدال منها:

1- أن يكون كافة الأطراف على علم تامّ بموضوع الحوار.

2- أن يكون لدى كافة أطراف الحوار الاعتراف بالخطأ في حال خالف الصواب.

3- أن يتأدب كلّ طرف مع الآخر باختيار الألفاظ المناسبة التي يرتضي المحاور أن يسمعها من غيره.

4- أن يحترم كلّ طرف عقيدة الطرف الآخر ومبادئه وأن يراعي نفسيته.

5- أن يكون الدافع الرئيسي لدى جميع أطراف الحوار إصابة الحقيقة وأن يكون الوصول إلى الصواب والحقّ.

6- البُعد عن الغضب وأسبابه مع الحرص على الاعتدال حتى ينتهي الحوار.

8- المرونة في الحوار وعدم التشنج.

9- الإصغاء للطرف الآخر والاستفادة من طرحه وكبت جماح النفس عند الرغبة في الجدال.

أمّا الجدال في اللغة يأتي من جدل أي شدّة الفتك، ويُقال رجل جدل إذا كان قوي الخصام، ففي اللغة تدلّ كلمة الجدل على القوّة والشدّة، والمجادلة بالمعنى اللغوي وهو المنازعة والمخاصمة، والمجادل هو صاحب الجدل أو صاحب المجادلة، وقد ورد لفظ الجدال في القرآن الكريم في سياق الذم تسعة وعشرين مرّة، إلّا في ثلاثة مواضع فقط وهي:

قوله تعالى: (ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) (النحل/ 125).

وقوله تعالى: (وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) (العنكبوت/ 46).

وقوله تعالى: (قَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا) (المجادلة/ 1).

وقد رافق الذم الجدل أو المجادلة لأنّها غالباً ما تقود إلى التعصب والعنف والتشدد والبحث عن الغلبة في الجدال وليس البحث عن الحقيقة بخلاف الحوار، لذلك وإن تشابه الحوار والجدل في طبيعتهما إلّا أنّ الفرق كبير جدّاً في الأهداف التي يروم الوصول إليها في هاتين المفردتين.

كما بيّن المرجع الراحل السيِّد محمّد الشيرازي كيف يكون الجدال بالقبيح من القول: «يلزم على الشخص المجادل حتى إذا كان على الحقّ، أن يحترز عن سوء التعبير والإزراء بالخصم وبما يقدّسه من المعتقدات، وأن لا يجرح مشاعره، ويبتعد عن السبّ والشتم، وأي جهالة أُخرى، فإنّه من الجدال القبيح، وإن كان لإثبات الحقّ، لأنّ ذلك من إحياء للحقّ بإحياء الباطل وهذا مرفوض، لأنّه بالتالي إماتة للحقّ، لأنّ الحقّ لا يحييه الباطل، بل الحقّ يحيى بإحيائه وباتباع الأساليب الحقّة، وبالحكمة والموعظة الحسنة، والجدال بالتي هي أحسن، وليس الحَسَن فحسب».

الحوار الهادئ

في محاولة لصياغة أو قل صناعة السلُّم الاجتماعي والتقدّم نعيش اليوم حالة من الجدل العنيف بين الأفكار والمدارس والأحزاب والطوائف وغيرها، جدل يؤدِّي إلى التقاطع وليس إلى التقارب، والغريب أنّ هذا الجدل يحدث في دول تؤمن بالانفتاح والنظام الديمقراطي، وهو ما يخالف بطبيعة الحال الخطاب المستفز والعنيف الذي يولّده هكذا نوع من الجدل، لذلك علينا البحث عن إستراتيجية جديدة، إستراتيجية تقوم على الحوار الهادئ الذي يساهم في تحقيق مجتمع مسالم ومتصالح وخالي من النزاعات كبديل عن اللجوء إلى العنف اللفظي أو الفعلي الذي يخلفه الجدل العنيف، أو قل للحوار الذي يتحوّل إلى جدل عنيف لعدّة أسباب منها:

1- الشخصنة.

2- العنف الفكري واللفظي.

3- سوء الظن بالآخرين والتعسف.

4- الجهل بالمصطلحات والمفاهيم (أسلوب البحث العلمي).

5- قلة المطالعة والتثقيف والاطلاع على الأفكار الأُخرى.

6- التكبر والشعور بالفوقية.

إنّ الحوار الهادئ هو ما نحتاج إليه، لأنّ الهدف منه هو الجلوس معاً والتفكير معاً بطريقة اللاعنف الفكري بعيداً عن الجدال العنيف، ومحاولة إثبات وجهة نظري وصحّتها بأي طريقة (عنيفة) مهما اختلفنا وتقاطعنا في آراءنا، خصوصاً وإنّ الحوار يقوم على التسامح الفكري (الذي لا يعني بالضرورة التنازل عمّا تؤمن به من أفكار ومعتقدات)، إضافة إلى استناده إلى أساليب علمية وحجج واقعية وفهم لأفكار ومعتقدات الطرف الآخر وتعمق في فهم المصطلحات والأفكار المطروحة للنقاش وغيرها من أساليب البحث العلمي التي تميزه عن الجدل العقيم.

إنّ البحث عن الحوار المنتج هو غاية العقلاء والحكماء لأنّه حوار يحتوي على ثمار الإقناع والتقارب والسلام والتسامح والتعايش فيما بيننا، ولتحقيق هذا الأمر ينبغي أن يرافق الحوار الشعور بالمسؤولية وصولاً إلى النجاح المنشود وتحقيق فوائد الحوار التي منها:

1- يتم من خلاله تبادل الأفكار بين الناس وتتفاعل فيه الخبرات.

2- يساعد على تنمية التفكير وصقل شخصية الفرد.

3- يولّد أفكار جديدة.

4- ينشط الذهن.

5- يساعد على التخلّص من الأفكار الخاطئة.

6- يساعد على الوصول إلى الحقيقة.

الحوار كإستراتيجية للنجاح

في كتاب (المفاوض المثالي) للكاتب (كيفين كين) يرى أنّ «الحضارة الإنسانية شهدت فصولاً كثيرة من استخدام العنف والتهديد كوسيلة أساسية لتوزيع وإعادة توزيع الثروات والموارد، أمّا حضارة اليوم فإنّها تشهد عملية توزيع ضخمة لأنواع كثيرة من الخدمات والمنتجات بوسائل تختلف عن وسيلتي العنف والتهديد، وإحدى هذه الوسائل هي ما نسميه بالمفاوضة» والتي بطبيعة الحال لا يكتب لها النجاح إلّا عبر الحوار الهادئ أو الحوار المنتج، إذ أنّ «التحاور أو التناظر يعتبر من أكثر أشكال التفاعل شيوعاً بين المفاوضين، وعادة ما يأخذ نسبة تصل إلى 80% من وقت المفاوضات».

إنّ الأداء الأكثر فاعلية في عملية التحاور المنتج ينبغي أن يدور في فلك ما ينبغي علينا فعله وما ينبغي أن نتجنّبه، وهو ما أطلق علية (كيفين كين) تسمية «الحجج الشاردة» والتي تعني ببساطة إنّنا إذا أردنا حواراً ناجحاً منتجاً فعلينا الابتعاد عن:

- الإحساس بأنّ الحوار مع الآخر فرصة لتسجيل الأهداف في مرماه.

- الاستعداد دائماً لإلقاء اللوم على شخص ما وقصر المشاكل عليه وعلى تصرفاته.

- الإهانات الشخصية.

- إلحاق الدوافع الخفية (غير الدقيقة) بالآخرين.

- عدم الاستماع الجيِّد لما يقوله الآخرون.

- الاستجابة السريعة لأي استفزاز.

بمعنى آخر فإنّك «بأسلوبك في التحاور مع المفاوضين الآخرين تستطيع أن تحد من سرعة إيقاع عملية التفاوض وكذلك تستطيع أن تجد البدائل وتسهل طُرُق الوصول إليها».

 لذلك علينا جميعاً تقع مسؤولية اعتماد الحوار الهادف كإستراتيجية وأسلوب للحياة الخالية من العنف والتهديد وكلّ أشكال الخوف من أفكار ومعتقدات ومبادئ وأعراف الآخر المختلف عنا، بل والبحث عن المشتركات الإنسانية والأخلاقية الجامعة لكلّ المجتمعات البشرية كوسيلة لإنتاج لغة هادئة تنجح في تقوية السلُّم الاجتماعي بين الحضارات والمجتمعات الإنسانية جمعاء.

ارسال التعليق

Top